مكان ولادة سيدنا عيسى ابن مريم
خشيت مريم -عليها السلام- من ردود أفعال قومها وعواقب اتهامهم لها بارتكاب الفاحشة، لذا لجأت إلى مكان بعيد عنهم. وقد أوضح الله -تعالى- ذلك بقوله: (فَحَمَلَتهُ فَانتَبَذَت بِهِ مَكانًا قَصِيًّا). فمن الطبيعي أن تصدر منهم هذه التصرفات تجاه امرأة عذراء لم تتزوج، وكانت معروفة بتقواها وصلاحها، ولذلك قررت الابتعاد وتوجهت نحو منطقة شرق بيت لحم، حيث ولدت المسيح عيسى -عليه السلام-، وهو ما يتفق عليه النصارى الذين يذكرون ذلك في الإنجيل، في سفر متى، حيث ورد النص: “ولما وُلد يسوع في بيت لحم اليهودية”.
يقع هذا المكان على بُعد أربعة أميال من الموضع الذي كانت فيه مريم، وقد وصفه الله في قرآنه بـ “مكانًا قَصِيًّا”. وقد ذكر وهب بن منبه أن عيسى -عليه السلام- وُلد في مصر، حيث ركبَت مريم -عليها السلام- الحمار وسافرت مع يوسف، لكن هذا الرأي لا يستند إلى دليل صحيح. وهناك من قال إن ولادته كانت في الناصرة، إلا أن الرأي الأكثر شيوعًا بين العلماء هو أنه وُلد في بيت لحم.
قصة ولادة مريم لعيسى عليه السلام
بشارة مريم بعيسى عليه السلام
أرسل الله -تعالى- جبريل -عليه السلام- ليبشر مريم -عليها السلام- بقدوم نبي الله عيسى -عليه السلام-. وفيما يلي تفاصيل ذلك:
- عُرفت مريم -عليها السلام- بعفتها وطهارتها، وكانت نموذجًا يحتذى به للمؤمنات، كما جاء في قوله -تعالى-: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ). بينما كانت مشغولة في عبادتها، جاءها جبريل بصورة إنسان سوي، كما ورد في قوله -تعالى-: (فَأَرسَلنا إِلَيها روحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا).
- شعرت مريم -عليها السلام- بالذعر واستعاذت بالله من هذا المخلوق، حيث قالت: (قالَت إِنّي أَعوذُ بِالرَّحمـنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا)، وقد استخدمت اسم الله الرحمن لتطلب منه صرف هذا الموقف عنها برحمته.
- بدأت تذكره تقوى الله ليعود عن مقصده، لكن جبريل أخبرها بأنه أتى ليهب لها غلامًا زكيًا، حيث ورد قوله -تعالى-: (قالَ إِنَّما أَنا رَسولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا). وقد ردت مريم على ذلك بسؤالها: (أَنّى يَكونُ لي غُلامٌ وَلَم يَمسَسني بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيًّا).
- فهمت مريم -عليها السلام- أن هذا كائن مرسل من الله -تعالى- وأن ما سمعته صحيح، لكنها استبعدت فكرة تحقق المعجزة من دون زواج، فرد عليها جبريل بقوله: (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَرَحمَةً مِنّا وَكانَ أَمرًا مَقضِيًّا).
فالله -عز وجل- بقدرته، والذي خلق آدم من تراب، قادر على خلق ولدٍ من دون أب، ليكون ذلك آيةً للناس تدل على قدرته وإرادته المطلقة. إن الله قد يغيّر ما اعتاد عليه الناس من ولادة المرأة بعد حملها من رجل، ليصنع معجزة برحمته، وليجعل من هذا المولود نبيًا ورسولًا. وقد تحققت إرادة الله بقوله: “كُن فيكون”، وإن كانت كلمة “كُن” تعبر عن الأمر بكفاءة، إلا أن ما حدث قد تمّ قبل ذلك، وكانت الكلمة بحد ذاتها بمثابة رفع للستار عن هذه المعجزة للخلق.
- استسلمت مريم بنت عمران -عليها السلام- لأمر الله بعد أن جاءها الملك جبريل -عليه السلام- يبشرها، فتوجهت إلى مكان شرقي المسجد الأقصى، وهناك أخبرها الله -عز وجل- بخبر ابنها.
قال الله -تبارك وتعالى- موضحًا الأمر في القرآن الكريم: (وَاذكُر فِي الكِتابِ مَريَمَ إِذِ انتَبَذَت مِن أَهلِها مَكانًا شَرقِيًّا* فَاتَّخَذَت مِن دُونِهِم حِجابًا فَأَرسَلنا إِلَيها روحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا* قالَت إِنِّي أَعوذُ بِالرَّحمـنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا* قالَ إِنَّما أَنا رَسولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا* قالَت أَنّى يَكونُ لي غُلامٌ وَلَم يَمسَسني بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيًّا* قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَرَحمَةً مِنّا وَكانَ أَمرًا مَقضِيًّا).
ولادة مريم لعيسى عليه السلام
عانت مريم -عليها السلام- من آلام الولادة وهي تستند إلى جذع النخلة، وتمنت لو كانت قد توفيت منذ زمن وتركت العالم وراءها، خوفًا من محاسبة قومها ولومهم لها. ومع ذلك، ناداها جبريل ليحذرها من الخوف والحزن، مؤكداً لها أن الله -تبارك وتعالى- وهبها غلامًا زكيًا، ونصحها أن تهز جذع النخلة لتسقط عليها الثمار، وأن تصوم عن الكلام لله -تعالى- وتبتعد عن المحادثات مع الآخرين، كذلك ذكرها بأن ابنها سيكون كافيًا لها حين يسألها الناس.
اتبعت مريم ما أوحى إليها الله -تعالى-، فنفذت جميع تعليماته. فهزت الجذع فسقطت عليها رُطَبًا فأكلت وشربت من الماء الذي أُعطي لها، وامتنع عن الكلام. يقال أيضًا إن تمنّيها للموت كان نتيجةً لألام المخاض، حيث اعتبرت أن الموت كان أفضل مما كانت تعانيه، وقد شعرت بذلك حتى قبل أن تحمل، لذا قد ترى الحياة فوق الهموم والشائعات مؤلمة إلى حد كبير.
كرامات مريم عند ولادتها لعيسى عليه السلام
خصَّ الله -تبارك وتعالى- مريم بنت عمران بعدة كرامات، نذكر منها:
- فجَّر الله -تبارك وتعالى- نهرًا يجري تحت قدميها، كما في قوله -تعالى-: (قَد جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيًّا). وفسره البعض على أنه نهر صغير جرى تحت قدميها، بينما ذهب آخرون إلى أنه يعبر عن المكانة العالية لابنها الذي سيكون له شأن عظيم.
- أنبت الله -تبارك وتعالى- عندها شجرة النخيل وأوصاها أن تأكل من ثمارها، حيث ورد في كتابه: (وَهُزّي إِلَيكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ تُساقِط عَلَيكِ رُطَبًا جَنِيًّا). والجنيُّ هو الثمر الذي نضج وجاء وقت قطافه، والطقس آنذاك لم يكن موسم النخيل، وهذا يدل على عناية الله بها وابنها في مكانٍ آمن ومهيَّأ بحاجة إلى الغذاء والماء.
نبذة عن نبي الله عيسى عليه السلام
يدعى عيسى ابن مريم، ولقبه المسيح، وقد تم نسبته إلى والدته لعدم وجود أب له، كما قال الله -تعالى-: (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ). هذا وبيّن لأمه أنه سيكون من الأنبياء والصالحين في الدنيا وسيكون في الآخرة مع السابقين من الأنبياء والشهداء. كما أخبرها بقوله -عز وجل-: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ)، مما يشير إلى أنه سيتحدث إلى الناس في طفولته وكهولته بأقوال مرضية ومفهومة.
لقد تحدث إلى قومه في طفولته ليؤكد براءة أمه من الشائعات التي طالتها، حيث خاطبهم: (قالَ إِنّي عَبدُ اللَّـهِ آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَني نَبِيًّا* وَجَعَلَني مُبارَكًا أَينَ ما كُنتُ وَأَوصاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوالِدَتي وَلَم يَجعَلني جَبّارًا شَقِيًّا* وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَومَ وُلِدتُ وَيَومَ أَموتُ وَيَومَ أُبعَثُ حَيًّا). وبهذا أصبح نبيًا يحمل رسالة الله -تعالى-، في كلٍ من حالتي الطفولة وبزغ نجم رسالته، مما يعكس رتبة تشريف من الله -تعالى- له ويظهر معجزاته في حياته.
المقصود بالمسيح هو الممسوح من الذنوب، أو لأن معجزته تتمثل في الشفاء بمسح القلب، أو بأنها تعني المُبارك.